الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَسَالِيبَ الْأَنَاجِيلِ وَفَحْوَاهَا يَرَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا غَرِيبٌ عَنْهَا، وَيَجْزِمُ بِأَنَّ كَاتِبَهُ مُتَأَخِّرٌ، سَرَتْ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْوَثَنِيِّينَ، فَأَحَبَّ أَنْ يُلَقِّحَ بِهَا الْمَسِيحِيِّينَ.وَنَقُولُ ثَالِثًا: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُوَافَقَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي لِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي رُوحِ مَعْنَاهُ يُعَدُّ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي؛ فَأَيْنَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِمَّا بَعْدَهُ، ثُمَّ تُبَيِّنُ لَنَا مَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اقْتَطَفُوا مِنْ رُوحِهِ؟!بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ «إِظْهَارَ الْحَقِّ» فَرَأَيْتُهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ أَحَدُ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، بِعِدَّةِ أُمُورٍ: مِنْهَا أُسْلُوبُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَ لَمْ يَكْتُبْ مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ، بَلْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ.وَمِنْهَا آخِرُ فَقْرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ عَنْ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَقْوَالِهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا يُوحَنَّا بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ وَشَهِدَ بِذَلِكَ، فَالَّذِي يَنْقُلُ هَذَا عَنْهُ لابد أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَقُصَارَاهُ أَنَّهُ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَتَبَهُ، فَحَكَاهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ فِي ضِمْنِ إِنْجِيلِهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْأَصْلُ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ يُوحَنَّا كَتَبَهُ وَشَهِدَ بِهِ؟ وَكَيْفَ نَثِقُ بِنَقْلِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَرِوَايَةُ الْمَجْهُولِ عِنْدَ مُحَدِّثِي الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا أَلْبَتَّةَ!وَمِنْهَا أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ النَّاسَ أَنْكَرُوا كَوْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِيُوحَنَّا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى عَهْدِ «أَرِينْيُوسَ» تِلْمِيذِ «بُولِيكَارْبَ» الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ يُوحَنَّا، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَرِينْيُوسُ بِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بُولِيكَارْبَ أَنَّ أُسْتَاذَهُ يُوحَنَّا هُوَ الْكَاتِبُ لَهُ.وَمِنْهَا نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا نَصُّهُ «كَتَبَ «إِسْتَادِلْنُ» فِي كِتَابِهِ: إِنَّ كَافَّةَ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا تَصْنِيفُ طَالِبٍ مِنْ طَلَبةِ مَدْرَسَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِلَا رَيْبٍ».وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحَقِّقَ «بَرْطَشِنِيدَرَ» قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كُلَّهُ، وَكَذَا رَسَائِلُ يُوحَنَّا لَيْسَتْ مِنْ تَصْنِيفِهِ، بَلْ صَنَّفَهَا أَحَدٌ «كَذَا» فِي ابْتِدَاءِ الْقَرْنِ الثَّانِي.وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحَقِّقَ «كُرُوتِيسَ» قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ عِشْرِينَ بَابًا، فَأَلْحَقَتْ كَنِيسَةُ أَفَسَاسَ الْبَابَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ مَوْتِ يُوحَنَّا.وَمِنْهَا أَنَّ جُمْهُورَ عُلَمَائِهِمْ رَدُّوا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ... إِلَخْ.سَادِسًا: عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّصَارَى لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ وَلَا مُنْقَطِعَةٌ لِكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ؛ وَإِنَّمَا بَحَثُوا وَنَقَّبُوا فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَفَلَّوْهَا فَلِيًّا لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا شُبْهَةَ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا صَرِيحًا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا وَجَدُوا كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةً أَوْ مُبْهَمَةً، فَسَّرُوهَا كَمَا شَاءَتْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَسَمَّوْهَا شَهَادَاتٍ، وَنَظَمُوهَا فِي سِلْكِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا غَيْرَ مَنْقُولَةٍ عَنِ الثِّقَاتِ، ثُمَّ اسْتَنْبَطُوا مِنْ فَحْوَاهَا وَمَضَامِينِهَا مَسَائِلَ مُتَشَابِهَةً، زَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يُؤَيِّدُ الْآخَرَ وَيَشْهَدُ لَهُ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ضَعْفِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ.فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ صِدْقُ قَوْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (5: 14) وَثَبَتَ بِهِ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اهْتَدَى إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ وَنَظَرِهِ، كَيْفَ وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَنْ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا الْأَعْلَامِ عِدَّةَ قُرُونٍ؛ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَارِيخِ الْقَوْمِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَقَوْا بِعِلْمِهِمْ وَاخْتِبَارِهِمْ إِلَى أَرْفَعِ الْمَنَاصِبِ، سَأَلَنِي مَرَّةً: كَيْفَ نَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لِلنَّصَارَى كِتَابًا وَاحِدًا يُسَمَّى الْإِنْجِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى عِيسَى، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، مَعَ أَنَّ النَّصَارَى أَنْفُسَهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةُ أَنَاجِيلَ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَسِيرَتِهِ؟ فَأَجَبْتُهُ: إِنَّ الْإِنْجِيلَ الَّذِي نَنْسُبُهُ إِلَى الْمَسِيحِ وَنَقُولُ إِنَّهُ هُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُذَكَرُ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ عَنْ لِسَانِ الْمَسِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، إِلَى آخِرِ مَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ.وَنَظِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (5: 14) فَأَنْتَ تَرَى مِصْدَاقَ هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، وَبَيْنَ دُوَلِهِمْ، لَمْ يَنْقَطِعْ زَمَنًا.سَابِعًا: أَنَّ أَحَدَ فَلَاسِفَةِ الْهُنُودِ دَرَسَ تَارِيخَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَبَحَثَ فِيهَا بَحْثَ مُسْتَقِلٍّ مُنْصِفٍ، وَأَطَالَ الْبَحْثَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ لِمَا لِلدُّوَلِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهَا مِنَ الْمُلْكِ وَسَعَةِ السُّلْطَانِ وَالتَّبْرِيزِ فِي الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْإِسْلَامِ فَعَرَفَ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ فَأَسْلَمَ وَأَلَّفَ كِتَابًا بِاللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، سَمَّاهُ «لِمَاذَا أَسْلَمْتُ» بَيَّنَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَكَانَ أَهَمَّهَا عِنْدَهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَهُ تَارِيخٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ، فَالْآخِذُ بِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ، الْمَدْفُونُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مَثَارِ الْعَجَبِ عِنْدَهُ أَنْ تَرْضَى أُورُبَّةُ لِنَفْسِهَا دِينًا، تَرْفَعُ مَنْ تَنْسُبُهُ إِلَيْهِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ فَتَجْعَلُهُ إِلَهًا، وَهِيَ لَا تَعْرِفُ مِنْ تَارِيخِهِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ أَصْلِهَا، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِتَارِيخِهَا وَمُؤَلِّفِيهَا، لَا تَذْكُرُ مِنْ تَارِيخِ الْمَسِيحِ إِلَّا وَقَائِعَ قَلِيلَةً حَدَثَتْ- كَمَا تَقُولُ- فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ. وَلَا يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ نَشْأَةِ هَذَا الرَّجُلِ وَتَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَأَيَّامِ صِبَاهُ وَشَبَابِهِ، وَلِلَّهِ فِي خَلْقِهِ شُئُونٌ. اهـ.
|